أنطوان لافوازييه.. أبو الكيمياء الحديثة الذي أعدمته الثورة الفرنسية

أخبار القارة الأوروبية – بورتريه

يوافق اليوم 26  من شهر آب/ أغسطس ذكرى مولد العالم الفرنسي أنطوان-لوران دُ لافوازييه، الذي يعد أحد النبلاء الفرنسيين، حيث ذاع صيته في تاريخ الكيمياء والتمويل والأحياء والاقتصاد.

لافوازيينه هو أول من صاغ قانون حفظ المادة، وتعرّف على الأوكسجين وقام بتسميته (في عام 1778م)، وفنّد نظرية الفلوجستون، وساعد في تشكيل نظام التسمية الكيميائي. وعادةً يشار إلى لافوازييه بأنه أحد آباء الكيمياء الحديثة.

بدأ لافوازيينه حياته محاميا ثم نال جائزة لابتكاره نظاما جديدا لإنارة الشوارع في باريس، وكان يقضي وقت الفراغ في الأبحاث الكيميائية، حيث يعرف بأبي الكيمياء الحديثة، تم إعدامه بعد قيام الثورة الفرنسية.

وقد كان لأنطوان لافوازييه ميزة أو معوق، هي أنه ولد غنياً (1743). أتاح أبوه-وكان محامياً في برلمان باريس- للصبي كل ما توفر من تعليم في ذلك الحين، وورثه 300.000 جنيه وهو بعد في الثالثة والعشرين.  وثروة كهذه كان يمكن أن تجهض مستقبلا في مهنة الأدب، ولكنها كانت عوناً لعلم تطلب أجهزة غالية وسنوات طويلة من الإعداد، وقد فر أنطوان من مدرسة الحقوق التي أرسل إليها، مؤثراً عليها دراسة الرياضة والفلك، وحضر محاضرات روويل في قاعة الجاردان دروا، ومع ذلك أتم دراساته القانونية، ثم رافق جان جتار في القيام برحلات ورسم خرائط تعدينية لفرنسا.

في 1768 انتخب عضواً في أكاديمية العلوم، وكانت يومها تضم بوفون، وكزنيه، وطورجو، وكوندورسيه، وبعد عام انضم إلى هيئة الملتزمين العامة في عملية بغيضة هي جمع ضرائب الإنتاج لاستعاضة ما أنفقوه في إقراض الحكومة. فدفع 520.000 جنيه ثمناً لثلث نصيب في أحد الأسهم الستين لهيئة الالتزام العامة، وفي 1770 رفعه إلى نصيب كامل. وفي 1771 تزوج ماري بولز، ابنة ملتزم عام غني، وأنفق الآن بعض وقته في رحلات للأقاليم، وفي تحصيل إيراداته، وجميع بيانات الضرائب، والعينات الجيولوجية. وقد مولت ثروته مختبراً عظيما وتجارب غالية التكاليف ، ولكنها قادته إلى الجيلوتين.

ثم شارك بدور إيجابي في الشئون العامة،  فلما عين (1775) مأموراً للبارود، زاد إنتاج تلك المادة المتفجرة وحسن نوعها، فيسر بذلك تصديرها على نطاق واسع إلى المستعمرات الأمريكية، وساهم في انتصارات جيوش الثورة الفرنسية.

البارود الفرنسي

 وقال لافوازييه “لقد أصبح البارود الفرنسي خير بارود في أوربا… ويجوز لنا أن نقول إن أمريكا الشمالية تدين له بحريتها.) وقد خدم في مختلف المجالس الرسمية، وقومية وبلدية، وعالج بذكائه المتعدد النواحي شتى مشكلات نظام الضرائب، والعملة، والمصارف، والزراعة العلمية، وأعمال البر العام.

 وحين كان عضواً في الجمعية الإقليمية بأورليان (1787) جاهد في سبيل الأحوال الاقتصادية والاجتماعية في الأقاليم. وخلال نقص الطعام الخطير في 1788 أقرض ماله لكثير من المدن لتشتري به قمحاً. لقد كان رجلاً أحب خير المجتمع، وثابر على جمع المال.

لافوازيه الذي نال جائزة لابتكاره نظاما جديدا لانارة الشوارع في باريس، وكان يقضي وقت الفراغ في الأبحاث الكيميائية ، حيث يعرف بأبو الكيمياء الحديثة, وتم اعدامه بعد قيام الثورة الفرنسية،  بتهمة ترطيب تبغ الجيش خلال عمله في لجنة المعايير المترية.

 ورغم انه لم يثبت عليه شيء فقد أُعدم، ومازالت العبارة التـي قيلت له في قاعة المحكمة: “الجمهورية ليست بحاجة إلى علماء بل بحاجة إلى عدالة” وصمة في تاريخ القضاء الفرنسي واستخفافاً مشيناً للعبقرية مثيلها نادر في التاريخ.

كانت تجارب لافوازييه من النوع الكمي بالدرجة الآولى، فقد قام بتعيين تركيب حامضي النيتريك والكبريتيك” وكان أول من أنتج “الغاز المائي” Water – Gas واخترع “المغياز”  ” Gasometer”وهو جهاز لقياس كميات الغازات يستعمل عادة في المختبرات.

أدخل لافوازييه مصطلحات واسماء كيميائية جديدة قبلها غيره من الكيميائيين وحلت محل النظام القديم. على أنه في هذه الأنشطة كلها لم يكف عن الاشتغال بالعلم، فغدا مختبره أعقد وأوسع المختبرات السابقة للقرن التاسع عشر: قوامه 250 آلة، وثلاثة عشر ألف مخبار، وآلاف المستحضرات الكيميائية، وثلاثة موازين دقيقة أعانت فيما بعد على تقدير الجرام وحدة الموازين في النظام المتري. وكان الوزن والمعايرة نصف السر في كشوف لافوازييه، وبفضلهما غير الكيمياء من نظرية كيفية إلى علم كمي. وبالوزن الدقيق برهن على أن “فلوجستون” شتال ليس إلا خرافة مربكة افترضت وجود مادة غامضة تترك الجسم المشتعل في عملية الاحتراق وتدخل الهواء.

 وفي 26 أبريل 1775 قرأ لافوازييه على الأكاديمية مذكرة روى فيها التجارب التي هدته إلى اعتبار الاحتراق امتصاص جسم محترق لعنصر غامض من الهواء، أطلق عليه مؤقتاً اسم “الهواء الشديد النقاء”.  لقد اكتشف الأكسجين  لكنه لم ينحت لفظ “الأكسجين” للدلالة على العنصر القابل للاشتعال في الهواء إلا عام 1779، وقد اشتقه من كلمتين يونانيتين معناهما “مولد الحمض” لأنه ظن خطأ أن الأكسجين مكون لا غنى عنه في جميع الأحماض.

ولاحظ لافوازييه أن نوع الهواء الذي تمتصه المعادن في الاحتراق هو نفس النوع الذي يدعم الحياة الحيوانية.

 في 3 مايو 1777 أسس لافوازييه التحليل العضوي، بوصف التنفس بأنه اتحاد الأكسجين بالمادة العضوية، وفي هذه العملية لاحظ انطلاق حرارة، كما تنطلق في الاحتراق؛ ثم زاد تأكيد الشبه بين التنفس والاحتراق، بإثباته أن ثاني أكسيد الكربون والماء ينطلقان (كما في التنفس) من احتراق مواد عضوية مثل السكر والزيت والشمع، وحدثت الآن ثورة في علم الفسيولوجا بفضل التفسير المتزايد للعمليات العضوية بلغة فيزيا-كيميائية.

تكاثر التجارب، ونمو المعرفة الكيميائية، ونبذ نظرية الفلوجستون، اقتضى صياغة جديدة، ووضع مصطلحات جديدة، لهذا العلم المتفتح/ وعينت أكاديمية العلوم لافوازييه، وجيتون دمورفو، وفوركروا، وبرتولليه، لمحاولة إنجاز هذه المهمة، وفي 1787 نشروا “طريقة لوضع المصطلحات الكيميائية”، فنبذت أسماء عتيقة مثل “مسحوق الألجاروت”، و”زبد الزرنيخ” و”أزهار الزنك”؛ وسمى الهواء المجرد من الفلوجستون “أوكسجينا” والهواء المحتوي على الفلوجستون “أزوتا”، ثم نتروجيناً، والغاز القابل للاشتعال هيدروجيناً، والهواء الثابت غاز حامض الكربون، والتكلس تأكسداً، واشتقت أسماء المركبات من مكوناتها. وعدد جدول للمواد البسيطة اثنين وثلاثين عنصراً معروفاً للافوازييه، ويعدد الكيميائيون اليوم من هذه العناصر ثمانية وتسعين. ومعظم الأسماء التي تقررت في كتاب “الطريقة” المذكور قياسية في علم المصطلحات الكيميائية في يومنا هذا. وقدم لافوازييه للمصطلحات الجديدة ولخص العلم الجديد، في “رسالة تمهيدية في الكيمياء” ظهرت عام 1789، وكانت علامة ثورة أخرى-هي نهاية فلوجستون شتال وعناصر أرسطو.

قانون لافوازييه

قانون بقاء الكتلة وينص على أن أوزان مادتين كيميائيتين منفصلتين توازي وزن المادة الجديدة الناتجة من اتحادهما.

وكان لافوازييه نفسه ضحايا الثورة الفرنسية.، فلقد شارك في الجهود المبذولة لتفاديها، وفي الشرور التي أفضت إليها.

 وفي العهد الذي هيأ للثورة عمل بهمة في لجان تدرس عيوب السجون والمستشفيات وتصلحها، وقدم إلى لوران دفيلدوي المراقب العام (1787) مذكرة عدد فيها تسعة عوامل مسئولة عن استغلال طبقة الفلاحين، وكان في كلامه ما يشرفه تشريفاً خاصاً، لأنه صادر من مالك أرض من أصحاب الملايين.

كذلك كان من كبار الأعضاء في هيئة الملتزمين العموميين، التي كانت هدفاً للسخط من الجميع تقريباً، وبين عامي 1786 و 1786 بلغ متوسط أرباحه من عملية الالتزام هذه 666.667 جنيهاً في العام، وهو ما يساوي نسبة مئوية قدرها 8.28% في السنة، وربما كان محقاً في اعتباره هذا العائد معقولا نظراً لما تتطلبه العملية من جهد ومخاطرات، وعملا باقتراح منه بنى كبير الوزراء كولون، في 1783-87، سوراً حول باريس لمنع المهربين الذين يتهربون من أداء المكوس، وقد كلف السور والجمارج والبوابات الجديدة ثلاثين مليوناً من الجنيهات، وأثار المشروع سخطاً عاماً، وصرح الدوق دنيفرنوا بأن صاحب فكرته يجب أن يشنق.

صديق الفنون لم يمت

أيد لافوازييه الثورة في 1789 وهي ما تزال تحت سيطرة الطبقات الوسطى، وبعد عام شعر بأنها تنزع إلى التطرف، والعنف، والحرب، فناشد القائمين بها الاعتدال وضبط النفس.

 وفي نوفمبر نشر بعض موظفي الالتزام العام نبذة اتهموا فيها الهيئة باختلاس صندوق معاشاتهم، وقالوا فيها “ارتعدوا يا من مصصتم دم التعساء”(47). وفي 1791 بدأ مارا حملة شخصية ضد لافوازييه،  فقد كان “صديق الشعب” قد نشر في 1780 “أبحاثاً فيزيائية في النار” زعم فيها أنه أظهر للعيان العنصر الخفي في النار، وأبى لافوازييه أن يأخذ هذا الزعم مأخذ الجد.

ولم ينس مارات له فعلته هذه/ ففي عدد 27 يناير 1791 من مجلته “صديق الشعب” اتهم مارات الكيميائي -المالي بأنه دجال ضخم الموارد، رجل “سنده الوحيد في المطالبة بتقدير الشعب له أنه حبس باريس بمنعه الهواء النقي عنها بسور كلف الفقراء 33 مليون جنيه. فليته شنق على عمود المصباح”(48). وفي 20 مارس 1791 ألغت الجمعية التأسيسية هيئة الالتزام العام.

وجاء دور الهجوم الآن على أكاديمية العلوم، لأن جميع المؤسسات التي تخلفت عن النظام القديم اشتبه في تعاطفها مع أعداء الثورة، ودافع لافوازيبه عن الأكاديمية، فأصبح الهدف الأكبر للهجوم، وفي 8 أغسطس صدر الأمر بأن تحل الأكاديمية نفسها، وفي اجتماع لها وقع جدول الورديات فيمن وقع لاگرانج، ولاڤوازييه، ولالاند، ولامارك، وبرتوليه، ومونج. وانصرف كل منهم إلى حال سبيله مؤملا ألا تعثر عليه الگيلوتين.

في هذا الشهر قدم لافوازييه إلى المؤتمر مشروع نظام قومي للمدارس أوحت به إليه أفكار كوندورسيه، ويقضي بأن يكون التعليم الابتدائي مجاناً للجنسين “لأن هذا واجب مفروض على المجتمع نحو الطفل، أما التعليم الثانوي، المباح أيضاً للجنسين، فيوسع بتأسيس الكليات الصناعية في جميع أرجاء فرنسا.

وبعد شهر فتش عمال الحكومة مسكنه، وكان بين الخطابات التي وجدت به من أصدقاء لافوازييه خطابات نددت بالثورة، وتحدثت في أمل عن الجيوش الأجنبية التي ستطيح بها سريعاً، وأظهرت خطابات أخرى أن لافوازييه وزوجته يخططان للهروب إلى إسكتلنده.

 وفي 24 نوفمبر 1793 قبض على اثنين وثلاثين من الملتزمين العموميين السابقين، ومن بينهم لافوازييه.

وقد حركت زوجته كل نفوذ ليفرج عنه، ففشلت، ولكن سمح لها بزيارته، وفي السجن واصل عمله في شرحه للكيمياء الجديدة، واتهم الماليون بأنهم تقاضوا رباً فاحشاً وغشوا التبغ بالماء، وابتزوا 130 مليون جنيه في أرباح غير مشروعة.

وفي 5 مايو 1794 استدعوا للمثول أمام محكمة الثورة، وبرئ ثمانية منهم، وحكم على أربعة وعشرين بالإعدام، ومنهم لافوازييه.  فلما طلب إلى القاضي الذي رأس المحكمة أن يخفف الحكم على أساس أن لافوازييه وبعض الآخرين علماء ذوو قيمة للدولة، كان رده فيما روى “ليس بالجمهورية حاجة إلى علماء” ولكن الرواية لا تستند إلى دليل مقنع. وأعدم لافوازييه بالجيلوتين في اليوم الذي صدر فيه الحكم، 8 مايو 1794، في المكان الذي يقوم فيه اليوم ميدان الكونكورد،  ويقال أن لاگرانج علق على إعدامه بهذه العبارة:

إن قطع رأسه لم يستغرق أكثر من لحظة، وقد لا تكفي مائة عام لنوهب رأساً نظيره.

وصودرت كل أموال لافوازييه وأرملته لتساعد في الوفاء للجمهورية بمبلغ 130 مليوناً من الجنيهات ادعى أن الملتزمين العموميين مدينون به للدولة.

 أما مدام لافوازييه، فقد عالها خادم قديم للأسرة. وفي 1795 استنكرت الحكومة الفرنسية إدانة لافوازييه، وردت إلى أرملته ثروتها، وقد عمرت حتى عام 1836.

وفي أكتوبر 1795 أقامت مدرسة الآداب والفنون جنازاً لذكرى لافوازييه، وألقى فيه لاجرانج تأبيناً، وأزيح الستار عن تمثال نصفي يحمل هذه العبارة: “إن ضحية الطغيان، وصديق الآداب والفنون المبجل، لم يمت، ولم يزل يخدم الإنسانية بعبقريته.

Exit mobile version