أخبار القارة الأوروبية – تقارير
رغم أن الأزمة الأوكرانية تشكل تهديدا مباشرا لاستقرار دول الاتحاد الأوروبي، إلا أن ألمانيا لديها هموها الخاصة، فهي تعد ثاني أكبر شريك اقتصادي لروسيا بعد الصين، وستتأثر البلاد تحديدا في مجال الطاقة، حيث كانت تعقد آمالا عريضة على توفير حاجاتها من الغاز الطبيعي من خلال خط نورد ستريم 2، لكن غزوا روسيا محتملا للأراضي الأوكرانية قد يكتب نهاية هذا المشروع. لاسيما أن الرئيس الأمريكي “جو بايدن” وبعد محادثات مع المستشار الألماني “أولاف شولتز” أكد أن أي غزو روسي لأوكرانيا سيكون توقيعا على نهاية خط أنابيب “نورد ستريم 2”.
المستشار الألماني قال في وقت سابق من الشهر الماضي إن كل الخيارات مطروحة على الطاولة في حال حدوث عدوان روسي، محذرا روسيا من التشكيك في وحدة الأوروبيين وتضامنهم بشأن الأزمة الأوكرانية.
وأوضح على هامش مشاورات أجراها مع قادة دول البلطيق الثلاث في برلين أنه يتعامل “بجدية كبيرة” مع القلق الذي تبديه الدول الثلاث، مضيفا أن “الأمر يتعلق بتجنب حرب في أوروبا”، وهو يعرف أن تداعياتها ستشمل كامل أوروبا.
تم التوقيع على اتفاقية بناء الخط الأول من نورد ستريم في سبتمبر/ أيلول 2005 بحضور المستشار الألماني السابق “غيرهارد شرودر” والرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، بعد فترة وجيزة من الخسارة الانتخابية للائتلاف الذي كان يقوده.
وبعد أسبوعين فقط من تركه لمنصبه أصبح “شرودر”، باقتراح من “بوتين”، رئيسًا لمجلس الإشراف على شركة تشغيل خطوط الأنابيب “إن.إي.بي.غي”، فيما واصلت خليفته “أنغيلا ميركل” دعم المشروع رغم كل الانتقادات والتحفظات، مؤكدة كل مرة أن الأمر يتعلق بمشروع اقتصادي محض وليس بمشروع سياسي.
ويعتبر الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي ينتمي إليه المستشار الحالي “أولاف شولتس” من أكبر داعمي المشروع، إضافة إلى حزب اليسار وحزب البديل من أجل ألمانيا ورؤساء وزراء ولايات شرق ألمانيا، فيما عرف عن حزب الخضر، وهو عضو في الائتلاف الحاكم حاليا في برلين، دعواته المتكررة للتخلي عن المشروع بسبب الانقسامات حوله في الاتحاد الأوروبي ولأنه يرى أيضا أنه يقوي روسيا.
إشكالات سياسية واقتصادية لألمانيا بسبب الغاز الروسي
ألمانيا هي المستورد الرئيسي للغاز الروسي في أوروبا، وقد ساهمت في إنجاز خطي أنابيب نوردستريم، مشروع تجنب الطريق البري عبر بيلاروسيا أو أوكرانيا حيث سلك بحر البلطيق بربط روسيا مباشرة بألمانيا، الأمر الذي أغضب عددا من دول شرق أوروبا وحتى الولايات المتحدة الأمريكية، ما أثار عددا من الإشكالات الاقتصادية والجيوسياسية.
ورغم تحفظات حلفاء ألمانيا حول المشروع منذ البداية، فإنهم لم ينجحوا تماما في منع إنجاز المشروع. غير أن الاستعدادات الروسية المفترضة لغزو أوكرانيا جعلت من ذلك موضوع استقطاب سياسي حاد، خاصة مع توقع الشركة المشغلة لخط الأنابيب عام 2016 بأنه سيكون لأوروبا طلب إضافي على الغاز الطبيعي لا يقل عن 100 مليار متر مكعب سنويًا.
موقف ائتلاف إشارة المرور
ائتلاف “إشارة المرور” (حكومة برلين) يعتبر الغاز مصدرًا مهمًا للطاقة في مرحلة التخلص التدريجي من الطاقة النووية والفحم، وحتى تتمكن البلاد من تغطية احتياجاتها من الطاقة بشكل تصاعدي وكامل من خلال مصادر غير أحفورية.
في المقابل اعتبر المعهد الألماني للبحوث الاقتصادية في عام 2018 أن نورد ستريم ليس ضروريا كما شكك في جدواه الاقتصادية، متوقعا انخفاض الطلب على الغاز في ألمانيا وأوروبا على المدى الطويل، كما اعتبر المعهد أن ألمانيا تملك خيارات أخرى، من خلال دول أخرى منتجة للغاز بكميات كافية.
ألمانيا وإدمان الغاز الروسي
وكانت شبكة الإعلام الألمانية “إير.إن.دي” قد وصفت في التاسع من فبراير/ شباط الجاري البلاد بأنها مدمنة على الغاز الروسي مثل مدمني المخدرات.
شركة غازبروم الروسية كشفت في تغريدة على موقع تويتر أنها صدّرت في العام الماضي (2021) ما لا يقل عن 59.2 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي إلى الغرب عبر نورد ستريم 1 (..) في برلين، يعترف السياسيون من جميع الأحزاب اليوم بارتكاب الكثير من الأخطاء في سياسة الغاز الألمانية خلال السنوات الأخيرة.
على عكس إيطاليا، مثلا، لا توجد قوانين في ألمانيا تفرض على الموردين ملء احتياطي الغاز الوطني، وعلى عكس جميع الدول الأوروبية الساحلية الأخرى، من غير المعروف بعد متى ستعمل ألمانيا على إعادة تحويل الغاز المسال إلى غاز والذي يصدر عبر طريق السفن.
تعثر إكمال خط نودر ستريم الثاني
تم الانتهاء من أشغال بناء الخط الثاني من خط أنابيب نودر ستريم في السادس من سبتمبر/ أيلول 2021، وهو خط يبلغ طوله 1.230 كيلومترا عن طريق بحر البلطيق من “أوست لوغا” في خليج لوغا في روسيا وصولا إلى لوبمين بالقرب من غرايفسفالد في ولاية ميكلنبورغ فوربومن. ويبلغ قطر الخط الثاني 1.2 متر بالتوازي مع الخط الأول الذي بدأ به العمل رسميا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011.
وبإمكان كل خط نقل ما لا يقل عن 55 مليار متر مكعب من الغاز سنويا، ويذكر أن الخط الأول مملوك بنسبة 51% لشركة غازبروم الحكومية الروسية و15.5% لـ”وينترشال” التابعة لشركة باسف وإيون رورغاس (ألمانيا)، و9% لكل من “غي.دي.إف” (فرنسا) و”غاسأوني” (هولندا). أما نوردستريم 2، فمملوك بنسبة مائة في المائة لـ غازبروم. وحسب التقديرات، فقد بلغت تكاليف إنجاز الخط الثاني ما لا يقل عن ثمانية مليارات يورو.
ولا تزال عملية التصديق على بدء عمل الخط الثاني من قبل الوكالة الألمانية ذات الاختصاص، معلقة، ولتحقيق ذلك، يتعين على الشركة المشغلة لنوردستريم 2، إنشاء شركة فرعية لها في ألمانيا، وفق القانون الألماني، وبعدها سيكون بإمكان الأخيرة إدارة الجزء الألماني من خط الأنابيب البالغ طوله 150 كيلومترا.
وتبحث الوكالة الألمانية ما إذا كان خط الأنابيب يفي بجميع المتطلبات الفنية والقانونية للموافقة عليها، قبل أن تراجعها في مرحلة نهائية المفوضية الأوروبية وحينها فقط يمكن صدور الترخيص النهائي.
اقرأ أيضا: الأزمة الأوكرانية.. تساؤلات في الدوافع والتداعيات
مرور خط نورد ستريم 2 عبر المياه الدولية وليس عبر البر بتفادي المرور ببيلاروسيا وبولندا، أو أوكرانيا وسلوفاكيا وجمهورية التشيك، مكن روسيا من توفير مليارات اليورو التي تدفعها سنويا لدول العبور، وقد وظفت تلك الدول موقعها في الماضي للتفاوض على شروط أسعار أفضل، وبالتالي فهي تعتبر من أكبر المتضررين لأنها تخشى من أن نورد ستريم 1 و2 سيجعل الأنابيب الأرضية غير ضرورية على المدى الطويل، ما سيقطع عنها إمدادات الغاز المباشرة وبأسعار تفضيلية.
وبعد مفاوضات ماراثونية، وقعت روسيا وأوكرانيا في 30 ديسمبر/ أيلول 2019، عقدًا لنقل الغاز الروسي عبر أوكرانيا، ساري المفعول حتى نهاية عام 2024، وبعد ذلك يمكن تمديده لمدة عشر سنوات أخرى، وهو ما يضمن إيرادات لأوكرانيا بقيمة ثلاثة مليارات دولار أمريكي سنويًا.
مخاوف من فقدان الاستقلالية
الدول الأوروبية تخشى من فقدان الاستقلالية في مجال الطاقة خلال التعامل مع روسيا المتهمة باستعمال الطاقة كسلاح للابتزاز السياسي، وبالتالي فإن الاعتماد على الغاز الروسي سيعني بالضرورة المزيد من التبعية السياسية.
ويعتبر عدد من دول الاتحاد الأوروبي أن الاعتماد على مُورد واحد، شركة غازبروم الروسية المملوكة للدولة، خطرا استراتيجيا، وتدعو بالتالي إلى تنويع مصادر الإمداد الطاقي. واتهمت بولندا، على سبيل المثال، ألمانيا وروسيا باتخاذ قرار بشأن المشروع دون الدول المعنية وعدم مراعاة مصالح دول العبور السابقة.
قطر في الواجهة لسد العجز
ويتوقع عدد من المراقبين فرض عقوبات اقتصادية غربية ضد موسكو في حالة غزوها لأوكرانيا وقد يعني ذلك مناسبة لإعلان موت نورد ستريم 2، وفي كل مرة يمتنع فيها المستشار “شولتس” عن تأكيد أن خط أنابيب نورد ستريم 2 سيتوقف في حالة الغزو الروسي لأوكرانيا، تتزايد الشكوك لدى حلفاء ألمانيا، ليس لأنهم لا يثقون بـــ”شولتس”، ولكن لأنهم يعرفون أن ألمانيا تعتمد على الغاز الروسي.
ويعول كثيرون على قدرة قطر على سد فجوة إمدادات الغاز الروسي لكن خبير الطاقة “ديفيد باتر” يرى أن ذلك سيكون صعبا وأن إغلاق نورد ستريم 2 لن يكون مفيدا بشكل كبير”، وبالتالي لن يكون بوسع قطر سد الفجوة التي سيخلفها توقف الغاز الروسي عن أوروبا.