شارك في إعداد التقرير: رغد عيسى – جودي صالح – عبد الله الشعبو – ليلى القيسي – بكر قصاب
تصوير: خالد خليفة رزق
يصر العرب على تسمية شارع “الزون آليه” وسط العاصمة الألمانية برلين بـ ”شارع العرب” لكثرة المحال التجارية العربية، وطابعه الذي لا يختلف كثيراً عن أسواق عموم المدن العربية، ناهيك عن “اللغة العربية” السائدة في كل مكان، فبالكاد تسمع، أو ترى كلمة ألمانية، ربما باستثناء أرقام السيارات ولوحات أسماء الشوارع وبعض الكلمات واللافتات المرورية.
وتفضل الجالية العربية زيارة هذا “الزون آليه” أي “شارع الشمس” لشراء الحاجيات ذات الخصوصية الشرقية والتي يتعذر وجودها في أماكن أخرى، فيمكن أن تجد “الفول المدمس بالنكهة الفلسطينية، وبهار المقلوبة، والكنافة النابلسية التي تأتي من نابلس في فلسطين، وكذلك رائحة الزعتر ، كما ستجد البضائع السورية في مختلف أنواعها، أما خبر التنور العراقي فرائحته تفوح في أرجاء المكان، حيث يصل إلى مسامعك اغنية لـ”فيروز” وربما في المساء أخرى لـ “أم كلثوم” قادمة من المقاهي المنتشرة هناك.
زيارة الشارع تشكل كذلك فرصة لتعرف العرب على بعضهم البعض، فهناك ربما يوجد ما يوحدهم ويجمعهم بعيداً عن السياسة وتجاذباتها، لترى أن اعلام الدول متواجد في كل مكان، وهنا تُباع الكثير من منتجات بلاد الشام والفلسطينية.
يقع الشارع “الزون آليه” في القسم الغربي من برلين أو “برلين الغربية” وأُطلق عليه في بداية في نهاية الثمانينيات “بيروت الصغيرة” لكثرة المحال اللبنانية، أما اليوم ومع قدوم السوريين والعراقيين بدأ الشارع يأخذ طابعاً عربياً جامعاً لكل الجنسيات من فلسطينيين وسوريين ولبنانين وعراقيين وحتى مغاربة.
من فلسطين إلى لبنان..
أحد أصحاب المحلات قال لـ”أخبار القارة الأوروبية”: “كل شيء يجمع العرب من المحيط إلى الخليج ستجده هنا، حتى علم فلسطين ستجده على عبوات زيت زيتون”، لافتاً إلى أن “المسألة تتعدى الاكل والشرب، فهناك، ويشير إلى محل بيسان للشرقيات “تباع أشياء من التراث الفلسطيني كالدربكة، فخار، لوحات، صناديق الخزف، طاولات لعب الزهر، وكذلاك اعلام وصور متعلقة بفلسطين والوطن العربي”.
“محمد” اللبناني الذي يسكن خارج برلين يقطع مسافة طويلة بسيارته برفقة أولاده لشراء حاجياته من الشارع، ولا يفوت فرصة زيارة محل بيسان للشرقيات فربما جاء بشيء جديد لم يكن قد اشتراه من قبل.
الشاب القادم من منطقة “البهار” في لبنان أكد، أنه يأتي إلى شارع العرب لشراء حاجياته وهي غير موجودة في المنطقة التي يقطنها، وكذلك لرغبته في شراء الأشياء الخاصة التي تذكره بوطنه، وكذلك فرصة لمعايشة الاجواء العربية فمعظم العرب المتواجدين في منطقته ومن باقي المقاطعات القريبة من برلين يأتون لشراء احتياجاتهم من الشارع الذي بات يضج بالحركة بعد موجة اللجوء في العام ٢٠١٥.
أما “أبو ربيع” صاحب مطعم “أكرومي” اللبناني فيروي لـ”أخبار القارة الأوروبية” بدايته في هذ الشارع فيقول: “أبيع المعجنات والترويقة اللبنانية أنا وأخوتي منذ 18 عاماً، وما نقدمه مميز ومرغوب من قبل الزبائن فنحن نقدم الخلطة اللبنانية التقليدية، المسبحة، حمص حب بطحينة، الحمص على لحمة، والفتة والفول، وهي أكثر الأكلات مبيعا، بالإضافة للمناقيش بالزعتر الفلسطيني المميز الذي يأتي خصيصا من فلسطين”. مشيرا إلى أنه “عندما افتتح المحل كان لدي تشكيلة واسعة من المأكولات منها السمكة الحمرة وشيش الطاووق والصحن اليومي، ولكن للتميز وبسبب ضغط العمل ركز على الأصناف معينة كالفول والحمص والمناقيش وقد استطاع مطعمه الصغير أن يجذب الكثير من السياح للاستمتاع بالاكل العربي وفق الطريقة اللبنانية|.
“أبو ربيع” لفت إلى أنه “ُعرض عليه التوسّع، ولكن لم يعد لديه القوة الكافية والنفس الطويل، لكنه لا يمانع من أن يتابع أحد أولاده أو أخوته مسيرته. ولكنه استدرك بالقول “الجيل الجديد يسعى إلى الدراسة والتعلم ويفضلها عن المصالح المتوارثة”.
“خبز التنور” العراقي..
لخبز التنور العراقي نكهة خاصة، تذكر بالجدات الريفيات في بلاد العرب، فيصبح حالة حنين أكثر منه حالة طعام.
العراقي “مسعود” صاحب محل “افران التكتك” أوضح لـ “أخبار القارة الأوروبية”، أن خبز التنور اشتهر بهذا الاسم “التنور” بسبب طريقة تحضيره، وهو عبارة عن خلطة عجين خاصة تخبز على التنور، وهو موقد النار المصنوع من الطين وبأحجام مختلفة ويتواجد في المنازل، وكذلك في الافران الكبيرة، أما مكون الخبز نفسه فهو شأنه شأن أي خبز الطحين و الماء والكاربون و الملح ولكن يضاف إليه السمسم في بعض الأحيان.
الشاب العراقي “مسعود” الذي بدا مهموما بأحداث بلده قال: “افتتحت المحل في الوقت الذي شهد فيه العراق مظاهرات الشباب ( ثورة تشرين ) وتكريما للشباب العراقي الشجاع سميته بالتكتوت الذي غزا بلدي العراق”، مؤكداً أنه “يطمح لافتتاح محل أكبر يضم المأكولات العراقية “.
ويشتهر العراق بـ”الصمون الحجري” الذي تختلف طريقة تحضيره عن خبز التنور، اذ يتم تحضيره بـ”وضع دقيق القمح مع كميه مناسبة من الماء الدافئ شتاء والبارد صيفا، بالإضافة إلى كميه من الملح ومقدار من الخميرة تختلف حسب حرارة الطقس، ويتم خلطها بما يسمى “عجانه”، لتصبح “متلابسة” (متماسكة) بالمعنى الدارج، على أن تكون قوية وليست لينة.
كما يلعب دور العجان وخبرته في معرفة “العجين” وقوته ومدى نقاوة “العجنه” التي يطلقون عليها “صافية” ليتم رفع “العجانة” إلى طاولة التقطيع (التزگاه) لمدة١٠ دقائق وتبقى مغطاة (ترتاح)، ومن ثم يتم التقطيع من قبل ( الوزان ) الذي يمتلك خبرة تمكنه من تقطيع العجين دون الحاجة الى ميزان فقط في بداية العمل يوزن قطعه واحده ويمسكها باليد لمعرفة حجمها ومن ثم بخبرته يستطيع التقطيع بنفس الحجم والوزن.
يأتي بعد ذلك دور ( اللافوف ) الذي بلف القطع بعد الوزان لتكون بطريقة ملفوفة مدببة الطرفين لتسهل عمل ( الداگوك ) وترتيبها بالشكل المتعارف عليه، وبعد أن يكمل اللافوف يقوم بتحويل (الطاوليات التي توضع عليها القط) إلى “الداگوك” لكن بطريقة “الملفوف” اولا (يدگ) وخلال هذه الفترة تتحول من عجنة قوية إلى عجنة سهلة التشكيل، وبعد ان يكمل الداكوك عمله تكون جميع الطاوليات او تسمى تنزيله بالعاميه تذهب لتستريح الطاوليات قرب الخباز وبنفس الطريقة تقلب الي”يندك اول يخبز اول يعني ضروري اول طاولي قامو بتشكيله هو الي راح يخبز بعد فترة راحة تستمر حسب الفصل والبروده
يشار إلى أن “التسكاه او طاولة التقطيع يجب أن تكون مصنوعة من الخشب، لضمان عدم جفاف العجين عند استخدام الستيل، كما أنه من الصعب أداء العمل بارتداء القفازات لانها تعيق العمل، رغم أنها تبدو منافية للذوق العام والحالة الصحية”.
سوريا الجديدة..
يمتد شارع “زونين آليه” البرليني ليحكي عن تاريخ الوجود العربي في المدينة، فبعد أن كان “بيروت الصغيرة” بمتاجره اللبنانية، تحول اليوم بعد موجة اللجوء في العام ٢٠١٥، إلى سوريا جديدة، في هذا السياق يقول “عروة” الذي يزور الشارع باستمرار لـ”أخبار القارة الأوروبية”: “قدوم أعداد كبيرة من اللاجئين، معظمهم من سوريا، جعل الحركة الاقتصادية للشارع أكثر نشاطاً، وهذا يلاحظ من خلال أعداد المحال السورية، لاسيما المطاعم ..( الدمشقي. البيك، حلويات ادلب الخضراء.. الفيصل، العجمي، ياسمين الشام.. وغيرها”.
ووسط “الزونين آليه”، يمكن أن تحصل في المطاعم على الاطباق الشعبية السورية و”كأنك تأكل من يدي أمك” فهناك على سبيل المثال مطعم “العجمي” الذي يقدم وجبات “رؤوس الغنم، وأقدامها” أو كما تسمى باللهجة الشامية “المقادم”.
الشيفان مهند العتر “أبو مازن” ابن مدينة داريا في ريف دمشق، وغياث المصري ” أبو حدو” من حي الميدان الدمشقي الشهير بمطاعمه، سبق وأسسوا مطعم “آرام الشام” في “ساحة عرنوس” وسط دمشق ، ثم قرر أبو مازن افتتاح مطعمه الخاص في داريا ” الصفصاف” عام ٢٠١٠، ومع تدهور الأوضاع في مدينته التي ثارت على النظام الحاكم في العام ٢٠١١، خرج أبو مازن من سوريا متوجها إلى مصر، وهناك أسس سلسلة مطاعم منها “الريف الدمشقي” في مدينة الإسكندرية، لينتهي به الأمر مع شريك العمل السابق “أبو حدو” في مطعم العجمي وسط برلين.
استطاع “أبو مازن” بحكم خبرته كشيف إتمام “Weiterbildung” تدريب مهني باختصاصه، ليبدأ بالبحث مع شريكه “أبو حدو” عن مشروعهم الخاص أو حلمهم كما وصفوه، وبدأوا باستشارة محامين مختصين في موضوع الضرائب، لمعرفة الواجبات والتبعات المترتبة على هذه الخطوة، وخلال البحث تعرفوا على الدكتور “محمد الابراهيم” صاحب الخبرة الواسعة في ألمانيا ومالك مطعم “العجمي”، الذي قدم لهم المساعدة.
الشيف “أبو مازن” إلى أنه أوضح لـ “أخبار القارة الأوروبية”: أنه “يسعى لتوسيع العمل في ألمانيا، وإيجاد مكان مناسب يستطيعون فيه استقبال أعداد أكبر من الزبائن واستقطاب الألمان”، مؤكداً أنه “تمكن من الوصول لقلوب الألمان عبر حبهم وإتقانهم لمهنتهم، ليخلقوا لغة اندماج وتفاعل جديدة هي لغة المطبخ السوري بنكهاته ورائحة بهاراته المميزة، ويقدم المطعم كافة أنواع الطعام من المطبخ السوري التراثي، مثل الرؤوس، المقادم، النخاعات، والكبة بأنواعها “.
التنوع الثقافي..
يشكل الحي البرليني مثالاً حياً وواقعياً لتعايش الثقافة العربية مع الغربية، وعامل جذب لكل من زار برلين، حتى أضحى معلماً هاماً من معالم المدينة التي تشتهر بتنوعها الثقافي الفريد.
الألماني “Ruwen Jacobs ” الذي يرتاد مطاعم “شارع العرب” منذ أكثر من 10 سنوات، قال لـ”أخبار القارة الأوروبية”، إن “الطعهام في الشارع هو الأفضل في برلين، وأنا شخصيا آتي إلى هنا لأتناول الفول والمنقوشة، ولدي أصدقاء عرب هنا آتي معهم لتناول الطعام العربي، هنا أشعر بالراحة رغم ما يقال من أشياء غير دقيقة عن الشارع يمكن وضعها في سياق نظرية المؤامرة، فهناك من يدعي أنه لا يمكن للألماني أن يتجول في هذا الشارع، وهذا غير صحيح على الاطلاق”.
يضيف ” Jacobs ” :”كل الناس هنا لطيفة ومنفتحة، واعتقد ان الناس التي تفكر بطريقة سلبية عن هذا الشارع يجب عليها القدوم لترى بنفسها، فهذا أفضل من تشكيل صورة سيئة عبر الآخرين”.
الشاب الألماني أردف أنه “من الجميل أن يتكون المجتمع من ثقافات مختلفة، فكل ثقافة لها مميزاتها، وعندما يمكن لهذه الثقافات أن تتعايش، فكل ثقافة لديها طابعها خاص، فأنا آتي إلى هنا من أجل الإفطار وأذهب إلى الأتراك من أجل العشاء”.
اما الألماني “وين” الذي يزور الشارع بين الحين والآخر فيقول: إنه لا يستطيع ان يتخيل شارع عرب من غير عرب، فهو يحب هذا الشارع بسبب تعدد جنسيات فيه، والناس هنا، حسب رأيه، منفتحون ويتعاملون بحب واحترام، مؤكدا أنه يشعر نفسه في بيته عندما يكون في هذا الشارع.
سلبيات وايجابيات..
وعن إيجابيات وسلبيات شارع العرب، يقول أحد الزوار، إن ” شارع العرب يوجد فيه حركه مستمرة، وليس كباقي الأماكن في ألمانيا، فالأسواق والمحال والمطاعم تبقى فاتحة أبوابها لساعات متأخرة، ويستطيع المرأ أن يجد كل حاجاته في هذا الشارع وبأسعار رخيص”، لافتاً إلى أن “بعض الشباب الصغار بالسن يتحرشون بالفتيات وليس لهم ذنب بل هذا ذنب الفتاه الذي ترتدي ملابس ملفته للنظر”.
أما ” باري ” الألمانية فأكدت لـ”أخبار القارة الأوروبية”، أنها تحب أجواء شارع عرب لأنه متعدد الثقافات وفيه خيارات الطعام المختلفة ولكن يزعجها كثره القمامة في الشارع بالإضافة إلى الضوضاء في الليل، أما ” ليزا ” فترى أن السلبي في الشارع يتمثل في نظرة الشباب إلى النساء، مضيفة أنها لا تشعر بالراحة، والعرب حسب قولها دائما صوتهم عالي، مشيرة كذلك إلى وجود حوادث سرقة والمضايقات وغالبا الرجال يجملون أشياء خطيرة كالسكين، على حد قولها.
ليزا لم تنكر وجود إيجابيات فقالت “الايجابيات تتمثل في الطعام اللذيذ ، ورغم تعدد الثقافات في هذا الشارع إلا أن العرب هم الذين يملكون النجاح الاكبر لهذا سمي شارع عرب”.
ألمانية أخرى فضلت عدم ذكر اسمها قالت “لا يوجد أي نقطة إيجابية في هذا التجمع، فالعرب استولوا على البيوت هنا، ودائما ما تجد الشرطة في المكان لان عدد من المحلات غير قانونية”.
ورغم تحول هذا الشارع خلال السنوات الماضية إلى وجهة سياحية داخلية للألمان القادمين من مدن أخرى أو سياح قادمين من مختلف الدول الأوروبية للتعرف على الوجه العربي في المهجر، إلا أن اتهامات كثيرة تطال بعض المحال التجارية، منها إغراء الشباب بالعمل بالأسود أي “التهرب الضريبي” ناهيك أن البعض يعتبر المكان لترويج تجارة المخدرات.
وفقاً للشرطة الألمانية فإن “ساحة هيرمان ” المحاذية لشارع العرب أصبحت أكثر أماناً من السابق، ولكن في الوقت نفسه لم تنكر الشرطة معرفتها بأن الساحة مرتع لتجار الممنوعات، وأشخاص ينتهجون العنف، وأن ثلث مرتكبي الجرائم في هذه المنطقة ليسوا من الألمان، كما أن أكثر من 20 ٪ من هؤلاء ينحدرون من اصول مهاجرة.
وتشهد المنطقة بين فترة وأخرى مداهمات أمنية لإلقاء القبض على بعض الأفراد الخارجين عن القانون، والذين ينتمون لعصابات الجريمة المنظمة، وهي ما يطلق عليها الإعلام الألماني تسمية “العشائر”.
أما الاحصاءات الاقتصادية فتشير إلى أن حوالي 90% من الشركات هي بيد العرب، أو الألمان من أصول عربية وتقدر ولاية برلين نسبة الأشخاص الذين لديهم خلفية مهاجرة في شمال منطقة نويكولن التي يقع فيها الشارع تصل إلى 70% في بعض الأحيان.
يشار إلى أن الجالية العربية تعيش في برلين منذ العام 1960 وارتفع عددها في ثمانينات وأوائل تسعينات القرن الماضي بعد وصول عشرات الآلاف من المهاجرين اللبنانيين والفلسطينيين ويعيش هؤلاء في مجتمعات موازية ترفض الاندماج في المجتمع بحسب وصف وسائل إعلام ألمانية، كما ارتفعت نسبة العرب بعد هجرة اللجوء الأخيرة في العام ٢٠١٥ التي شكل فيها السوريين النسبة الكبيرة من أعداد العرب في برلين وعموم ألمانيا.