الحرب الاستباقية الأمريكية دوافع وملامح وأهداف

بقلم: الدكتور نزار محمود

منذ أيام تقوم حرب تهدد الأمن الاوروبي لا بل والعالمي تقودها روسيا بقوتها العسكرية التي يعززها سلاحها النووي الملوح به، والتي قد تنفلت الى حرب عالمية يصعب تقدير دمارها. بيد ان هذه الحرب لا تقتصر، سذاجة، على خلافات حدودية أو اعتداءات ثقافية على حقوق اثنية لشريحة من مواطني اوكرانيا بحدودها الرسمية.

ان ذلك لا يشكل سوى قمة جبل الجليد الغاطس في مياه البحر الأسود! إنها حرب تمتد الى عقود وقرون، ولها حساباتها في مستقبل الزمان. ولأسباب سياسية واقتصادية وأمنية وأحياناً لعوامل شخصية تقوم الحروب بين الدول والشعوب، اقليمية أو عالمية وتزهق على أثرها أرواح الملايين من البشر وبتحول بناء كثير الى انقاض وترتفع النيران في عنان السماء.وتختلف عند الأقوياء ذوو رغبات الهيمنة والتربع على سدة قيادة العالم دوافع الحروب عنها عند الضعفاء. فاذا كان الخبز والماء هو ما يدفع الضعفاء للحرب، نجدها شيئاً آخر عند الأقوياء.

نزار محمود

كنت في مقالات سابقة قد تطرقت الى الطبيعة السياسية والتاريخية المباشرة لأصل الصراع ما بين الطرفين الروسي والاوكراني مبتدئاً بالتحالف الاوكراني الروسي عام ١٦٥٤ ضد مملكة بولونيا وحليفاتها دول البلطيق والتي انتهت بانتصار التحالف الاوكراني الروسي وبروز الدور الروسي وتعاظمه منذ ذلك الحين، ومروراً بالقيصريات الروسية والحقبة الشيوعية التي ضمت الاتحاد السوفيتي وجمهوريات شيوعية اخرى التي قادتها في واقع الحال روسيا، وما تلاها من أمر انهيار الكتلة الشيوعية وتفكك حلف وارشو والاتحاد السوفيتي، الذي كان يضم اوكرانيا كذلك، عام ١٩٩٠ وبالتالي عودة جمهوريات اوروبا الشرقية الى المسرح الدولي كجمهوريات ذات سيادة والتي سارعت غالبية قادة انظمتها لتلبية رغبات التحالفات الغربية مثل الاتحاد الاوروبي والناتو في الانضمام اليها، وهو ما لم تتمكن روسيا منه أو من منعه.

وهكذا شكل العام ١٩٩٠ منعطفاً تاريخياً معلناً عن انتصار المعسكر الغربي على نظيره الشرقي والاعلان عن دخول العالم في زمن العولمة الجديد الذي تسود فيه رؤى النظام الغربي المنتصر وقيمه وآليات حياته التي عززتها كتابات صراع الحضارات لصموئيل هنتغتون ، ونهاية التاريخ لفوكوياما.

بيد أن الحياة لا يمكن ان تستمر طويلاً على هذه الشاكلة وهو ما يرويه لنا التاريخ في حكايات: حضارات سادت ثم بادت.لقد بنت الولايات المتحدة الامريكية هيمنتها على عوامل قوتها الاقتصادية والعسكرية التي لم تكن لتحصل دون ما مارسته من ظلم من جهة، وروح الحرية والمغامرة ونزعة التفوق والهيمنة من جهة اخرى! ظلمها في ما قامت به من مجازر بشرية ضد الهنود الحمر وغيرهم من شعوب الارض، وروح الحرية ونزعة التفوق والهيمنة التي شكلت شخصية الامريكي فرداً وجماعة.كما ساعدتها نتائج الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها اوروبا منهكة مدمرة، وكذلك اليابان.

اما الصين ودول المعسكر الاشتراكي الشيوعي فلم تكن حينها بتلك القوة الاقتصادية والعلمية الضاربة، رغم بعض حلقات التطور العسكري والفضائي.وخلال فترة الحرب الباردة كانت الولايات المتحدة الامريكية قد بنت موقعها القيادي، الى جانب عناصر قوتها، على جملة عوامل، منها:

⁃ الضعف العسكري والاقتصادي الدولي للدول الاوروبية نسبياً في العقود الاربعة التي اعقبت الحرب العالمية الثانية.

⁃ استخدام مواقف دول الاتحاد الاوروبي في صالح سياساتها وصراعاتها.

⁃ نجاح الولايات المتحدة الامريكية في تقسيم الكوريتين واخضاع الجنوبية المتقدمة صناعياً في خدمة مصالحها.

⁃ دور اجهزتها الاستخبارية بتشكيل انظمة كثير من دول العالم واختيار قياداتها الموالية ودعم بقائهم أو العمل على اسقاطهم، في حال تمردهم على مصالحها.

⁃ الهيمنة على قرارات المنظمات الدولية الحاكمة للعلاقات الدولية، رغم معضلة حق الفيتو في مجلس الامن التابع لمنظمة الأمم المتحدة.

⁃ خلق الفتن والمشاكل الداخلية والاقليمية في الدول والمناطق وفق استراتيجيات مصالحها السياسية والاقتصادية والعسكرية والامنية.

ومع سقوط منظومة الكتلة الاشتراكية الشيوعية في بداية تسعينات القرن الماضي ازداد تنمر الولايات المتحدة الامريكية حيث وجدت نفسها القطب الأوحد في العالم الذي تدور حول قوته ومصالحه بقية دول وشعوب العالم، وراحت تتصرف بموجبه عندما غزت افغانستان واحتلت العراق وضربت وتواجدت هنا وهناك في بقاع الأرض من دون رادع أو حساب.

لكن الدول التي تراجعت ادوراها منذ الخمسينات لم تكن قد سبت دون عمل من أجل استعادة دورها أو خلق دور جديد لها في عالم يتنافس فيه بشر الشعوب والدول، حتى تلك التي منيت تجربتها الشيوعية بالفشل وفي مقدمتها روسيا ذات التاريخ القيصري كذلك والموارد الكبيرة.

لقد حققت الصين طفرة اقتصادية وعلمية وتقنية هائلة خلال العشرين سنة الماضية من خلال تعشيقها بين البنى الاشتراكية وروح اقتصاد السوق وابتعادها عن الصدامات العسكرية المباشرة والمناكفات السياسية، اضافة الى اختيارها الصمت والتحفظ تجاه قضايا دولية كثيرة. في حين بقيت روسيا على الاعتماد على صناعتها العسكرية المتقدمة مع شروعها في مد تواجدها هنا وهناك من مناطق العالم الحساسة بالنسبة لها ورسم استراتيجيات الاستفادة من مواردها وفي مقدمتها موارد الطاقة من النفط والغاز. كما لم يغب عنها تاريخها القومي ولم يرضها تطويق حلف الناتو لها، وبالتالي مخاطر أمنها القومي.

هذه الامور وغيرها لم تكن في خارج حسابات الولايات المتحدة الامريكية واستراتيجيات حفاظها على هيمنتها العالمية، فراحت تفعل كل ما يبقي على مكانتها من خطط سياسية وامنية واقتصادية وفي مقدمتها مسألة الطاقة بالعلاقة مع اوروبا الغربية وفي طليعتها المانيا التي دخلت في مشاريع نقل الطاقة الروسية العملاقة.

ان ما تتبناه السياسة الامريكية منذ بعض الوقت ضد صعود الصين وتحجيم الدور الروسي وتعكير العلاقات الروسية الاوروبية وما حصل من أمر الازمة الاوكرانية ومحركاتها انما يشكل في مجموعه حرباً امريكية استباقية لتلافي تردي دورها المهيمن أو حرباً عالمية ثالثة. وستبقى تشكل نتائج الأزمة الاوكرانية منعطفاً تاريخياً في تشكيل العلاقات الدولية وموازين القوى العالمية.

Exit mobile version