رواية صوفيا لـ”رفيق شامي”.. الثورة وكل الحكايات تبدأ في حب دمشق

أخبار القارة الأوروبية – ثقافة

رفيق شامي؛ كاتب ألماني من أصل سوري، ويعد من أشهر الروائيين حاليًا على الساحة الألمانية، وقد تُرجمت رواياته إلى 28 لغة.

يتميز شامي بأسلوبه الجميل، وخياله الأخاذ، وعباراته الأنيقة، وبلغته الألمانية اللطيفة المترعة بالأجواء والصور الشرقية. إذ تنقلنا روايته في أجواء ساحرة بين الشرق والغرب.

في العام 2015، قال “رفيق شامي” في حواره مع DW حول رواية صوفيا: “في منتصف 2008 عندما بدأت أشعر بأن مرتزقة الكلمة كفّوا بأمر من المخابرات عن مهاجمتي. في مطلع 2009 اتصل صديق طفولتي بي وشرح لي أن السفير السوري ح. ع. يود مقابلتي للتفاوض حول إمكانيات عودتي”.

متابعًا: “فيما بعد تبين لي أن السفير ليس له أي سلطة وأن رجل المخابرات في السفارة هو المسؤول عن كل إغراءات العودة والترحيب الرسمي الذي أعدته المخابرات من لحظة دخولي إلى سوريا وحتى لحظة مغادرتي. وقد شرح لي هذا “الحقير” بصفاقة كيف أن النظام يوضح كل ما يريده من كل من يدخل إلى سوريا حتى لو كان من غير السوريين”.



تلك العودة التي لم تحدث حقيقةً، هي مدار أحداث رواية صوفيا، التي نُشرت عام 2015 بالألمانية، وصدرت بالعربية عن دار الجمل عام 2021، بترجمة خالد الجبيلي.

تعالج رواية صوفيا مشكلة المنفيين السياسيين واستحالة عودتهم إلى وطنهم، حتى لو تخلوا عن السياسة. وتعالج ايضًا تغلغل السلطة الأسدية حتى في أكثر الروابط العائلية قربًا وحميمية، فترى ابن عم  بطل القصة سلمان يحاول القضاء على قريبه العائد من المنفى (سلمان).

اقرأ أيضا: أمريكية مؤلفة رواية “كيف تقتلين زوجك”  تعترف بقتل زوجها

تتحول عودة سلمان إلى رحلة هروب مستمرة يتعرف فيها على السوريين عن كثب، بمختلف انتماءاتهم وشخصياتهم وآمالهم وهمومهم.

تقدّم الرواية عشرات الشخصيات الرجالية والنسائية بتناقضاتها وزلاتها وهفواتها وآمالها وانكساراتها، وتدور أحداثها بين دمشق وبيروت وهايدلبرغ وروما، وتقع الترجمة العربية في 567 صفحة من القطع المتوسط.

مقطع من الرواية..

كانت عايدة لا تزال تتأرجح وهي تقود الدراجة الهوائية في ذلك اليوم. ومع أنها استطاعت المحافظة على توازنها، ظلّت عيناها مثبتتين على المقود بينما بدأت العجلة الأمامية في رسم خط متموج على الأرض. ومع أن كريم لم يتوقف عن تحذيرها، “انظري إلى الأمام وانسي المقود”، لم ترفع عينيها – كما لو كانت منوّمة مغنطيسياً – عن المقود الذي يلمع بين يديها.

أطلقت عايدة على قيادتها الدرّاجة الهوائية في زقاق الياسمين في ذلك اليوم اسم “معمودية النار”. في عصر ذلك اليوم انتعلت عايدة صندلاً أبيض، وارتدت بنطالاً أزرق وقميصاً موشى بخطوط حمر وبيض، وعقصت شعرها الطويل الأشيب إلى الوراء في شكل ذيل حصان. وكانت كلما تأرجحت وتمايلت فوق الدراجة، أطلقت ضحكة عالية كأنها تريد أن تغطي بقهقهتها ضربات قلبها، بينما كان كريم يمسك بسرج الدرّاجة بقوة.

كانت الدراجة هولندية متينة اشتراها كريم مستعملة منذ ثلاثين سنة. وقد أحبّ هذه الدراجة إلى درجة أنه لم يسمح لأحد أن يقودها طوال تلك السنوات. ولم يتصوّر أن يقودها أحد غيره، إلى أن سألته عايدة، منذ حوالي شهر، إن كان هناك شيء لم يفعله، ويتمنّى دائماً أن يفعله. في ذلك الوقت، كان قد مضى على عيشهما معاً أكثر من ستة أشهر.

فأجابها على الفور، “أن أعزف على آلة موسيقية”، ثم تردّد قليلاً وأضاف بهدوء، “في الواقع، أن أعزف اللحن الذي أحبّه على العود”، وكاد أن يبتلع كلماته، “مثلك”، لأنه كان متيقناً بأنه لم يعد يستطيع أن يفعل ذلك لأن أصابعه لم تعد رشيقة وطيّعة، بعد أن تجاوز الخامسة والسبعين من العمر. وعايدة اتقنت العزف على العود وكأنها محترفة.

حلم كريم منذ طفولته بأن يعزف على آلة موسيقية تعرّف على عدد منها في حفلات أفراح وأعراس الأقارب، لكن ذلك كان شيئاً مستهجناً في بيت أسرته. فعلى الرغم من وجود مذياع في بيت عائلته الغنية، ومع أن والده كان يستمتع بالاستماع إلى الأغاني والمعزوفات الموسيقية بين حين وآخر، بالإضافة إلى نشرات الأخبار، فقد حرّم على أي فرد في عائلته أن يغني أو يعزف على أي آلة موسيقية. كان لدى أمّ كريم صوت جميل، لكنها كانت تغني دائماً في السرّ عندما يكون أبوه خارج البيت. وعندما تجرأ شقيقه إسماعيل وعزف بصوت منخفض على الناي الذي اشتراه، ضربه والده ووبخّه وحطم الناي صارخاً: “الغجر فقط هم الذين يفعلون ذلك”.

اقرأ أيضا: باتريك زوسكيند.. الروائي الألماني صاحب “رواية العطر

ابتسمت عايدة لكريم، وقالت: “يمكنني أن أعلّمك العزف على العود خلال ثلاثة أشهر، وإذا تدرّبت جيداً يومياً، فإن الألحان ستجد طريقها إلى يديك. وكلّ ما يلزمك هو قليل من الصبر”، وأضافت وهي تداعب وجهه بأصابعها، “وروح مرحة”. فضحك محاولاً إخفاء خجله.

“وانت؟ ما الذي تمنيت دوماً ان تقومي به ولم تجرأي على ذلك؟” سألها ليخفي شيئاً من ارتباكه.

“عندما كنت صغيرة، كنت أحلم دائماً بأن أقود درّاجة”، قالت عايدة، “وكنت أحسد أخي وأصدقاءه وجميع الصبية في الحيّ الذين كانوا يستطيعون أن يطيروا بدراجاتهم بخفة الريشة. لكن عندما قلت لأمي إنني أريد أن أتعلّم ركوب الدراجة، كادت أن تفقد صوابها، كما تفعل عادة عندما يمتلكها الرعب من شيء ما، وقالت على أن أتخلّى عن هذه الفكرة لأن النسوة يمكثن في البيت، وهناك لا يحتجن ولا يركبن دراجات. وقالت إن ركوب الدراجة قد يؤدي إلى عواقب لا يحمد عقباها، وعندما سألتها عن تلك العواقب، قالت محذّرة إن فتيات صغيرات كثيرات فقدن غشاء بكارتهن عندما ركبن الدراجة، وأضافت، ‘وحاولي إقناع الرجال الأغبياء أنك لم تعاشري رجلاً قبلهم”.

لم أصدّق ما قالته، لأنها كانت تبالغ دائماً عندما تفقد السيطرة على أعصابها خوفاً من شيء ما، تهوّل الأمور حتى تجد نفسك تائهاً في دوامة من الخرافات والمخاوف، مثل أنه ينبت للفتاة الصغيرة شارب ولحية إذا شربت قهوة، وأن المرايا المكسورة تجلب حظاً عاثراً لمدة سبع سنوات، وإذا حاولت أن تحول عينيك مازحا، فإنك ستبقى أحول طوال عمرك، وأن المرأة الحامل يجب أن تتناول الفاكهة التي تشتهيها حتى لا يولد الطفل وعلى جسمه وحمة في شكل الفاكهة التي اشتهتها – وكانت تحكي قصّة العمّ بركات الذي تجشّم عناء السفر إلى يافا لأربعة أيام ذهاباً وإياباً، ليجلب سلة من البرتقال اليافاوي المشهور لزوجته ماري التي أنجبت بعد ذلك طفلاً سليماً. كان ركوب الدرّاجة بالنسبة لي متعة لا تضاهيها متعة – أن أتوازن مثل لاعب سيرك يمشي على حبل مشدود، ولذلك كنت أضحك في سرّي على كل تحذير تقوله أمي لكي لا أركب دراجة”.



“ستتقنين ركوب الدرّاجة في أسبوعين أو ثلاثة”، وعدها كريم، لكنه سرعان ما أدرك أنّه تسرّع في وعده هذا. فلن تُكسر ذراعه أو ساقه عندما يعزف على العود، لكن ذراع عايدة أو ساقها قد تُكسر عندما تقود الدرّاجة. لمعت عيناها السوداوان، وقفزت إليه، وقبلته على شفتيه، مبدّدة بذلك شعوره بالندم كما ينقشع الضباب في أشعة الشمس.

“علّمني”، قالت متوسلة، ورأى كريم دموع الفرح في عينيها.

يُعجب المرء كم سنة عاشا مع تمنياتهما ورغباتهما الدفينة تلك. ومع أن أحدهما حكى للآخر عن ماضيه حتى عن أكثر الأمور حميمية بصراحة خلال الأشهر الستّة من حياتهما في بيت واحد، فقد اكتشفا فجأة أنه لا تزال هناك أشياء كثيرة يجب أن يعرفاها عن بعضهما.

“ربما خفت أن تضحك عليّ”، قالت عايدة، لتبرر تردّدها. فهزّ كريم رأسه موافقاً، وقال: “لم أتحدّث أنا أيضاً عن أحلامي منذ أن بلغت العشرين. ولو سألني أحد، لقلت له إنني أحبّ تعلّم الرقص لأشعر وكأنني أطير مثل طائر السنونو، لكنّي بقيت أؤجل ذلك. وعندما ماتت زوجتي أميرة، لم أعد ارغب بالرقص”.

“عندما كنت أرقص لم أشعر يوماً بانشراح أو بخفة لذيذة”، اعترفت عايدة، “كنت أحسب دائماً الزمن وأراقب خطواتي. وعندما بلغت العاشرة أو الثانية عشرة، لم أعد أفعل ذلك. لكنّي لم أتوقف عن الحلم بقيادة درّاجة”.

Exit mobile version